
هذا الصعود المتسارع يثير تساؤلات جوهرية حول العوامل الكامنة خلفه، إذ لم يعد الأمر مرتبطاً فقط بالطلب الاستهلاكي التقليدي أو بالمضاربة المالية، بل بات يعكس تحولات استراتيجية في النظام النقدي العالمي.
فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا وما تبعها من عقوبات أميركية غير مسبوقة على روسيا، اتجهت البنوك المركزية حول العالم إلى تكديس الذهب بوتيرة غير معهودة، في محاولة لتقليل الاعتماد على الدولار وتعزيز أدوات التحوط في مواجهة التوترات الجيوسياسية والانقسام العالمي. ووسط هذه الظروف، ارتفعت توقعات المؤسسات المالية الكبرى مثل “غولدمان ساكس” لتلمّح إلى إمكانية وصول الذهب إلى 5000 دولار للأونصة بحلول عام 2026، إذا ما تعرضت مصداقية الفيدرالي الأميركي للاهتزاز نتيجة ضغوط سياسية متصاعدة من الرئيس دونالد ترامب.
هذا المشهد الاستثنائي وصفه الرئيس التنفيذي لشركة “تارجت لإدارة الأصول”، نور الدين محمد، خلال حديثه إلى برنامج “بزنس مع لبنى” على سكاي نيوز عربية، بأنه انعكاس مباشر “لانعدام الثقة المتزايد في الدولار الأميركي وصعود التكتلات الدولية الجديدة”، مؤكداً أن السعر العادل اليوم لأونصة الذهب قد يتجاوز 4000 دولار، في ظل الظروف العالمية الراهنة.
المشتريات الضخمة للبنوك المركزية.. المحرك الخفي
منذ بداية الحرب الأوكرانية، اشترت البنوك المركزية حول العالم ما يقارب 115 مليون أونصة من الذهب، وهو رقم ضخم أعاد رسم موازين القوة المالية. الهدف لم يكن مجرد التنويع في الأصول، بل تجاوزت الغاية ذلك إلى ما هو أبعد: تقليل الاعتماد على الدولار الأميركي وضمان استقلالية الاحتياطيات النقدية بعيداً عن تقلبات السياسة الأميركية.
لأول مرة منذ 29 عاماً، تجاوزت قيمة احتياطيات الذهب لدى هذه البنوك قيمة حيازاتها من سندات الخزانة الأميركية. هذا التحول التاريخي يعكس تراجع الثقة بالدولار وبالاقتصاد الأميركي عموماً. ويؤكد نور الدين محمد أن “نسبة الاحتياطيات من الذهب ارتفعت إلى نحو 27% مقابل 23 بالمئة فقط للسندات الأميركية، وهو تحول جوهري في معادلة الثقة النقدية”.
الصين وحدها، كقوة صاعدة في الاقتصاد العالمي، اشترت خلال الأشهر العشرة الأخيرة ما يقارب 1.22 مليون أونصة، في رسالة واضحة تعكس توجهها الاستراتيجي نحو تقليص الاعتماد على الأصول الدولارية. وبالنظر إلى حجم الصين الاقتصادي ومكانتها ضمن تكتل “البريكس”، فإن أثر هذه المشتريات يتجاوز البعد المالي ليشكل جزءاً من صراع النفوذ بين الشرق والغرب.
الانقسامات الجيوسياسية وصعود التكتلات الدولية
لم يكن صعود الذهب معزولاً عن التحولات الجيوسياسية. فمنذ اندلاع الحرب الأوكرانية، دخل العالم في مرحلة جديدة من الاستقطاب الدولي. انقسام واضح ظهر بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، وبين تكتلات ناشئة تضم الصين، روسيا، الهند، ودولاً أخرى تسعى إلى بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب.
هذا المشهد يترجم عملياً إلى إعادة توزيع الثروة الاحتياطية، حيث يسعى أعضاء هذه التكتلات إلى تعزيز مكانة الذهب كأداة للتحوط وكاحتياطي استراتيجي بعيداً عن هيمنة الدولار. ويقول نور الدين محمد: “التكتلات مثل الصين والهند وكوريا الشمالية، وما يحدث من تحالفات جديدة، كلها عوامل تؤثر بشكل مباشر على زيادة الطلب على الذهب، وتؤدي إلى تراجع الثقة بالدولار”.
إذن، ليس الذهب مجرد معدن ثمين أو ملاذ تقليدي للأفراد، بل تحول إلى رمز للسيادة المالية في عالم متشابك ومشحون بالصراعات السياسية والاقتصادية.
الدولار تحت الضغط والفيدرالي في دائرة الاتهام
إلى جانب المشتريات الضخمة للبنوك المركزية، جاء تراجع سعر الدولار الأميركي كعامل إضافي لصالح الذهب. فالعملات العالمية الأخرى وجدت نفسها أمام فرصة لتعويض الخسائر الناتجة عن قوة الدولار في الأعوام الماضية. ومع توقعات السوق بأن الفيدرالي الأميركي قد يتجه نحو تخفيض أسعار الفائدة، تزايدت الرهانات على استمرار صعود الذهب.
تقرير حديث لـ”غولدمان ساكس” أشار إلى أن الذهب قد يصل إلى 5000 دولار للأونصة بحلول 2026، إذا ما تعرضت مصداقية الفيدرالي الأميركي للاهتزاز. والسبب أن استقلالية البنك المركزي الأميركي تواجه ضغوطاً سياسية متزايدة من الرئيس ترامب، وهو ما قد ينعكس سلباً على ثقة الأسواق بالدولار ويزيد الإقبال على الذهب.
نور الدين محمد شدد على خطورة هذه المسألة قائلاً: “إذا ما تأثرت استقلالية الفيدرالي الأميركي، فهذه كارثة كبرى تدفع الذهب إلى صعود قياسي”.
من يشتري الذهب اليوم؟
يختلف تأثير المشتريات على أسعار الذهب باختلاف هوية المشترين. فحين تكون المشتريات من جانب البنوك المركزية، كما هو الحال اليوم، فإنها تكتسب طابعاً استراتيجياً طويل الأجل. هذه البنوك لا تبيع بسهولة لأنها تشتري الذهب كاحتياطي استراتيجي للتحوط من التضخم وحماية قيمة عملاتها.
على العكس، حين تكون المشتريات من قبل صناديق الاستثمار (ETFs) أو المستثمرين الأفراد، فإن احتمالات البيع عند أول فرصة للربح تكون مرتفعة، مما يخلق تذبذبات قصيرة المدى في السوق. يوضح نور الدين محمد هذه النقطة قائلاً: “اليوم عندما يكون اللاعب الأساسي هو البنوك المركزية، فإن احتمالات النزول تقل كثيراً، لأن هذه المشتريات ليست مضاربات بل تحوط طويل الأجل”.
ولذلك فإن الأساس المتين الذي تشكله مشتريات البنوك المركزية هو ما يميز موجة الصعود الحالية عن دورات سابقة كان الذهب فيها أكثر عرضة للتقلبات.
السعر العادل وتوقعات المستقبل
في ظل هذه المعطيات، يرى نور الدين محمد أن “السعر العادل اليوم للذهب هو 4000 دولار للأونصة”، وهو تقدير يعكس حجم الضغوط العالمية على الدولار وارتفاع مستويات التضخم. ويضيف: “مع أن هذا التقدير يتناقض مع ما قلته قبل ستة أو سبعة أشهر، فإن الظروف الحالية تجعل من 4000 دولار سعراً عادلاً ومقبولاً”.
لكن المسألة لا تقف عند التقديرات، إذ إن قرارات الفيدرالي الأميركي المقبلة ستلعب دوراً مهماً في تحديد المسار. فالأسواق تترقب قرار 17 الشهر الجاري بشأن تخفيض الفائدة، غير أن نور الدين محمد يقلل من أهمية هذا القرار منفرداً، قائلاً: “الأهم هو مدى استمرارية خفض سعر الفائدة، وهل سيكون خفضاً لحظياً أم بداية لمرحلة جديدة من التيسير النقدي”.
ويشير إلى أن المؤشرات الحقيقية التي تراقبها الأسواق هي أرقام التضخم (CPI) وبيانات العمالة، لأنها تكشف مدى قدرة الاقتصاد الأميركي على الصمود أمام موجة التغيرات العالمية. “من المرجح أن نشهد حركة عنيفة على سعر الذهب عند صدور هذه الأرقام، لكن الاتجاه العام يبقى صعودياً”، بحسب تعبيره.
ملك الأصول الآمنة يعود إلى الواجهة
إن صعود الذهب إلى مستويات تاريخية ليس مجرد موجة عابرة، بل يعكس تحولاً هيكلياً في النظام المالي العالمي.
فالمشتريات الضخمة للبنوك المركزية، والانقسامات الجيوسياسية، وتراجع الثقة بالدولار، كلها عوامل تدفع نحو إعادة تموضع الذهب كأصل رئيسي في المعادلة الاقتصادية الدولية.