وتركّزت الاتهامات خلال السنوات الخمس على متصفح “كروم“، حيث اعتبرت وزارة العدل الأميركية أنه أصبح أداة احتكارية تعزز هيمنة غوغل على محركات البحث والإعلانات الرقمية. وطالبت الوزارة بإصدار حكم يصل إلى حد انتزاع “كروم” من قبضة غوغل، في خطوة وصفت حينها بأنها قد تتسبب بزلزال رقمي في حال حدوثها، كونها ستفتح المجال لتعددية جديدة على شبكة الإنترنت.
حكم يقلب الموازين
ولكن ما جرى الأسبوع الماضي قلب التوقعات رأساً على عقب، فبدلاً من تقليص نفوذ غوغل، جاء الحكم القضائي أقرب إلى صك براءة، سمح للشركة بمواصلة ترسيخ هيمنتها، لتخرج بذلك الشركة الأميركية محتفظة بكل أوراق قوتها، وكأنها اللاعب الأقدر على رسم قواعد اللعبة في عالم الإنترنت.
وتم إطلاق متصفح “كروم” لأول مرة في 2 سبتمبر 2008، كمشروع من تطوير فريق تابع لغوغل، بقيادة مهندسين بارزين مثل لينوس أوبيرهايمر ولارس باك. واستند المتصفح إلى مشروع Chromium مفتوح المصدر، الذي أنشأته غوغل نفسها لدعم كروم، وهو ما سمح لاحقاً لشركات أخرى في بناء متصفحاتها الخاصة على نفس الأسس التقنية، مثل مايكروسوفت إيدج، وبريف، وأوبرا.
بيانات محدودة تكشفها غوغل
وبحسب تقرير أعدته “نيويورك تايمز” واطّلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، فإنه لإصلاح احتكار غوغل، كان بإمكان القضاء إجبار الشركة على تصحيح سلوكها وفتح المجال أمام المنافسة، وهذا يعني بالنسبة للمستهلكين ظهور المزيد من خيارات محركات البحث بدلاً من استخدام Google.com، إلا أن الحكم القضائي الذي صدر الأسبوع الماضي، اكتفى بإجبار الشركة الأميركية، مشاركة بعض بيانات البحث الخاصة بمحركها.
وتتضمن البيانات التي باتت غوغل مجبرة على الكشف عنها، قائمة بالمواقع الإلكترونية التي يفحصها محرك بحثها لتوليد النتائج، ولكن هذه البيانات لن تتضمن أي مكونات أساسية لطريقة تشغيل Google.com، وهذا يعني أن ما سيتم الكشف عنه لا يتضمن معلومات مهمة يمكن أن يستفيد منها منافسو غوغل مثل DuckDuckGo وMicrosoft.
ولأنه من المتوقع أن تستأنف غوغل القرار القضائي الصادر بحقها، فقد تتأخر أيضاً بتطبيق قرار الكشف عن بعض بيانات البحث، ما يعني أن أي تغييرات فعلية في السوق قد تستغرق سنوات قبل أن تظهر.
خطوة بارزة
وفي حكمه الأخير، أتاح القضاء الأميركي لغوغل الاستمرار في دفع الأموال لشركات مثل Apple وSamsung لضمان بقاء محرك بحث غوغل الخيار الأول للمستخدمين على تلك الأجهزة، مما يعزز مكانة المتصفح كبوابة رئيسية للوصول إلى الإنترنت.
وتدفع غوغل نحو 20 مليار دولار سنوياً لشركة Apple، لضمان أن يظل Google.com محرك البحث الافتراضي على أجهزة iPhone.
وسماح القضاء الأميركي لغوغل الاستمرار في دفع الأموال يعتبر خطوة بارزة، إذ تعني أن هيمنة غوغل على الإنترنت ستظل قائمة بغطاء مالي شرعي، ما يمنحها قدرة أكبر على التحكم في تدفق المستخدمين والمعلنين، ويؤجل أي تغيير جوهري في خريطة المنافسة الرقمية لفترة غير محددة.
حكم يعكس رؤية ترامب
ويقول المطور التكنولوجي هشام الناطور، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الحكم القضائي الأميركي الأخير بحق غوغل لم يكن مفاجئاً على الإطلاق، بل يكاد يكون طبيعياً في ظل المرحلة الحالية، فنحن نتحدث عن قرار صدر خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب الذي لا يخفي موقفه الداعم لعمالقة التكنولوجيا الأميركية، باعتبارهم خط الدفاع الأول في حرب اقتصادية وتكنولوجية شرسة مع الصين، ومن هذا المنطلق فإنه لم يكن وارداً أن يسمح البيت الأبيض بصدور حكم يزعزع مكانة غوغل، أو يُضعف قدرتها التنافسية في هذا التوقيت.
ويشرح الناطور أن جوهر الدعوى التي رفعتها وزارة العدل الأميركية ضد غوغل عام 2020، تتعلق بالهيمنة على متصفح “كروم” ومحرك البحث والإعلانات الرقمية، وهي قضايا جوهرية بالفعل على صعيد المنافسة، ولكن في الميزان الاستراتيجي لا يمكن لواشنطن أن تفتح الباب أمام تفكيك هذه المنظومة، لأن البديل سيكون إفساح المجال أمام منافسين عالميين وفي مقدمتهم الصين لتعزيز حضورهم، مشيراً إلى أن الرئيس ترامب نفسه أكد هذه الرؤية بشكل علني منذ أيام قليلة، في لقائه مع قادة شركات التكنولوجيا، حيث قال جملة معبّرة وهي: “نحن نقود العالم ونتفوق على الصين بفضلكم أنتم”، وهذه العبارة تلخص فلسفة إدارته التي ترى بغوغل وآبل ومايكروسوفت وإنفيديا، أدوات استراتيجية تمكّن الولايات المتحدة من الحفاظ على تفوقها العالمي.
قبضة قانونية لغوغل
وبحسب الناطور، فإنه في الوقت الذي تستثمر فيه الصين مليارات الدولارات لبناء منظومة تكنولوجية مستقلة، لا يمكن للولايات المتحدة أن تُضعف “حصانها الرابح”، ومن هذه الزاوية كان السيناريو الأكثر واقعية، أن تخرج غوغل منتصرة وهو ما حدث بالفعل، حيث ستكون النتيجة المباشرة لهذا الحكم ترسيخ قبضة غوغل على الإنترنت، بغطاء قانوني ومالي شرعي، أما النتيجة غير المباشرة فهي رسالة واشنطن للعالم والصين تحديداً، بعدم السماح بأي تحركات قد تضعف شركاتها التكنولوجية الكبرى.
محطة انتقالية لتغيير كبير
من جهته يقول المبرمج التقني فادي سليم، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الحكم القضائي الأخير بحق غوغل قد يبدو للبعض وكأنه نقطة نهاية في معركة قضائية امتدت لخمس سنوات، ولكنه في الحقيقة ليس سوى محطة انتقالية في مشهد أكبر بكثير، فصحيح أن القرار منح غوغل متنفساً وفرصة لمواصلة تعزيز نفوذها في عالم البحث التقليدي، ولكنه لا يضمن لها الهيمنة المطلقة إلى الأبد، لأن خريطة الإنترنت نفسها على وشك أن تتغير جذرياً، مع دخول الذكاء الاصطناعي إلى هذا المجال.
البحث التوليدي
ويضيف سليم إن البحث عبر الإنترنت يشهد اليوم لحظة تحول تاريخية، فللمرة الأولى منذ عقدين تقريباً لم يعد البحث التقليدي عبر الروابط، هو الطريقة الوحيدة للوصول إلى المعلومات، حيث أن أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل ChatGPT من أوبن أي آي وكلود من أنثروبيك ومنتجات شركات ناشئة أخرى، بدأت بطرح نموذجاً مغايراً تماماً يقوم على “البحث التوليدي” أو البحث عبر الحوار والإجابة المباشرة وليس فقط على ترتيب الروابط، وهنا تكمن المعضلة الكبرى لغوغل، فهي وإن كسبت معركة القضاء إلا أنها تخوض اليوم معركة أصعب بكثير وهي كيف تحافظ على مكانتها في عالم تُعاد صياغته بواسطة الذكاء الاصطناعي.
نفوذ غوغل سيتراجع
ويرى سليم أن الحكم القضائي الأخير، منح غوغل استقراراً قانونياً يسمح لها بالتركيز على المستقبل، بدل الانشغال بالدفاع عن الماضي، ولكن تبقى الحقيقة الثابتة أن نفوذ غوغل التقليدي، سيتقلص حكماً في السنوات المقبلة، فالشركة الآن أمام امتحان كبير، فإما أن تعيد ابتكار نفسها كقوة رائدة في البحث القائم على الذكاء الاصطناعي، أو أن تجد نفسها بعد سنوات قليلة في موقع دفاعي أمام منافسين أميركيين، مثل أوبن أي آي وأنثروبيك، ناهيك عن اللاعبين الدوليين.