
القاضي منذر ابراهيم حسين رئيس المحكمة الاتحادية العليا
لا ترتقي الامم ما لم يكن لها الماضي الحافل بمتغيّرات صناعتها بين الامم، وطوبى لأمةٍ يمتد فيها الماضي بالحضارة الشامخة التي خرج من معطفها بقية الحضارات، فمن ذا يشك أو لا يشهد بما خطّه القلم من المدونات التاريخية والتشريعية سواءً على مسلة حمورابي أو على جدران المعابد أو المدن ، وهذا ما شهد له القاصي والداني، ففي هذا الاستذكار المئوي العظيم الذي عاش العراق فيه الكثير من التحولات والتغيّرات المرافقة لنشوء الدستور، تلك المرحلة المفصلية في تاريخ العراق، فموضوع الدستور وسلسلة إقراره التاريخية تبدأ من مرحلة إعداد الدستور بنظام ملكي من عام 1921 وحتى عام 1923، وهي المرحلة التي شهدت المصادقة عليه في عام 1925، وقد اعتمدت الدولة العراقية هذا الدستور الذي يعد الثاني في الوطن العربي بعد الدستور المصري، كذلك يعد هذا الدستور نقطة تحول أساسية في تاريخ العراق الحديث، حيث وضع أسس النظام الملكي الدستوري، وسعى إلى بناء دولة مدنية تعتمد على الفصل بين السلطات واحترام الحقوق والحريات.
فالمتتبع لهذا التاريخ الحافل من الجهود القضائية الدستورية التي بانت ملامحها في ماضي العراق وحاضره وصولاً الى ما تحقق في عام 2005، حيث ولادة دستور جمهورية العراق، الذي نستحضر معه تضحيات الشعب العراقي ومعاناته جراء سيطرة النظام الفردي الاستبدادي قبل سنة 2003، ثم تداعي الازمات عند محاربة عصابات التكفير والارهاب المتمثلة بتنظيم القاعدة الارهابي وتنظيم داعش الارهابي، حيث قدم الشعب العراقي في سياقها آلاف الشهداء على طريق الحرية ورفض استباحة الدم والعرض والارض. وهذه الاهمية تتأتى من فاعلية القضاء الدستوري ودوره المحوري في بناء الدولة وترسيخ مبادئ الديمقراطية، فالمهام الموكلة إليه تؤسس البناء الصحيح وتدعم الحفاظ على الحقوق والحريات العامة والخاصة، وليس هذا فحسب، بل تحقق التوازن بين السلطات المكونة للنظام السياسي في الدولة، وهذا ما اضطلعت به المحكمة الاتحادية العليا في مواد قانونها ونظامها الداخلي ومساهمتها في إرساء المفاهيم والفقه الدستوري الرصين، فالتقيّد بأحكام الدستور هو صمام الأمان للاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة، فإيجاد السبل اللازمة للحفاظ على الاموال العامة وفقاً لأحكام المادة (27/ اولاً) من دستور عام 2005، وتطبيق العدل والمساواة ونبذ سياسة العدوان واشاعة ثقافة التنوع وتبني اسلوب التوزيع العادل للثروة ومبدأ تكافؤ الفرص للجميع وصيانة حرية الانسان وكرامته وضمان حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، وحرية الاجتماع والتظاهر السلمي وفقاً لما جاء في المادة (38) من الدستور، وغيرها من المواد الدستورية التي تستوجب الالتزام بها ومراقبة أداء السلطات فيها بما لا يخل بوحدة العراق وسيادته،، فالوثائق الدستورية تمثل انعكاساً للقيم الانسانية والاخلاقية والدينية والثقافية والتربوية لها، وهي بذلك تمثل ترجمةً حقيقةً لما في تلك الشعوب من مظاهر الحياة في جوانبها الحياتية كافة.
ختاماً… لا يسعنا في هذا الموقف إلا أن نؤكد على أن ثبات الدولة إنما يكون بإقامة سنن العدل، وبالعدل تصلح الرعية وإن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، وإن الخلق عيال الله وأحب الناس الى الله اشفقهم على عياله.