
فالصين التي رصدت اتساع الهوة بين نيودلهي وواشنطن، عقب فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية قاسية على الهند، سارعت إلى استثمار هذه الفجوة عبر مدّ يد الدعم لجارتها الآسيوية، في مواجهة الضغوط الأميركية، فيما حرص الرئيس الصيني شي جين بينغ على استقبال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بحفاوة لافتة، ضمن فعاليات قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي انعقدت في مدينة تيانجين الصينية في الأول من سبتمبر 2025.
مظاهر ود مبالغ فيها
ولكن وبحسب تقرير أعدته مجلة “تايم”، واطّلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، فإن مظاهر الود المبالغ فيها بين رئيس الوزراء الهندي والرئيس الصيني خلال قمة منظمة شنغهاي، لم تنجح في تبديد النزاع الحدودي المزمن أو كبح المنافسة المتصاعدة بين البلدين، والسبب هو أن الخلاف المتشعب بينهما أعمق بكثير من أن تحله مظاهر استعراضية، والدليل على ذلك هي كلمة رئيس الوزراء الهندي خلال القمة والتي تجاهل فيها التطرق إلى ما قاله الرئيس الصيني عن أن الهند والصين جزء من الجنوب العالمي وعليهما العمل معا لدعم مصالح الدول النامية.
وحمل لقاء شي جين بينغ ومودي في قمة تيانجين دلالة خاصة، كونه أول اجتماع مطوّل بين الزعيمين على الأراضي الصينية منذ الاشتباكات الدامية التي اندلعت في وادي جالوان بجبال الهيمالايا صيف 2020، على خلفية الخلاف الحدودي المزمن بين البلدين حول ترسيم خط السيطرة الفعلية.
وجاء هذا اللقاء بعد أن أتم الطرفان سحب آلاف الجنود من نقاط التماس الحدودية، غير أن بكين رفضت الاستجابة لطلب نيودلهي بالمضي قدماً نحو خفض التصعيد وإعادة القوات إلى مواقعها الخلفية، ما أبقى الوضع العسكري في المنطقة الحدودية المتنازع عليها هشاً ومؤقتاً.
وكان وزير الخارجية الصيني وانغ يي قد زار نيودلهي قبيل قمة منظمة شنغهاي 2025، حيث اتفق الجانبان على إنشاء مجموعة عمل جديدة، تبحث سبل تعزيز السلام على الحدود، إلى جانب حزمة “حصاد مبكر” لتثبيت بعض النقاط المتنازع عليها، ولكن الخلاف الجوهري بقي قائماً، ففي حين تطرح بكين مراراً فكرة “تجزئة النزاع” والبدء بتسوية قطاع سيكيم-التبت شبه المستقر، تصرّ الهند على أن الحل لا بد أن يشمل جميع القطاعات في وقت واحد.
ما الذي يعيق العلاقات الهندية الصينية؟
صحيح أن التحولات في المعادلة الأميركية خلال عهد الرئيس ترامب، تؤثر في دينامية العلاقة بين الهند والصين، إلا أن مسار العلاقة بين الجارين الآسيويين، تحركه عوامل خاصة، فالمعضلة الحقيقية تكمن في اتساع فجوة القوة بين البلدين، ومطالبة الصين الهند بنوع من الخضوع داخل آسيا، وهو ما ترفضه نيودلهي رفضاً قاطعاً بحسب تقرير مجلة “تايم”.
ورغم أن الصين ترفع شعار التعددية القطبية على الساحة العالمية، إلا أنها لا تطبّق المنطق ذاته نفسه في آسيا. في المقابل، تصرّ الهند على أن العالم المتعدد الأقطاب، يستوجب بدوره آسيا متعددة الأقطاب.
وتتجلى حدة التباين الهندي الصيني أيضاً في الملفات الأمنية والعسكرية، ففي الحرب الهندية الباكستانية القصيرة هذا الصيف، استخدمت إسلام آباد أسلحة صينية الصنع، فيما ذهبت بكين خطوة أبعد عبر تقديم دعم مباشر للعمليات الباكستانية، شمل أنظمة استهداف ومراقبة متطورة، إضافة إلى مشاركة في الحرب الإلكترونية ضد الطائرات والصواريخ الهندية.
وفي النهاية، كان الاختلاف واضحاً في قمة منظمة شنغهاي للتعاون 2025 في تيانجين، حيث أكدت نيودلهي أن حل قضية الحدود أمر لا غنى عنه للسعي إلى الشراكة الاقتصادية وتطبيع العلاقات الهندية الصينية على نطاق أوسع، في حين اصرّت بكين على أن قضية الحدود لا ينبغي أن تُحدّد العلاقة، ليشدد الرئيس الصيني على أن الشراكة الاقتصادية هي حجر الأساس للعلاقات الهندية الصينية.
دونالد ترامب وعصر عدم اليقين
لطالما كانت الاستراتيجية الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، التي تهدف إلى الحفاظ على التفوق الأميركي في آسيا، أمراً مُرحّباً به من الهند، التي تسعى لاحتواء الهيمنة الصينية.
ويبرز في هذا السياق “التحالف الرباعي” الذي يضم الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان، كإحدى الركائز الأساسية لمواجهة التوسع الصيني في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والذي يتمثل أحد أهدافه الجوهرية في ردع أي محاولة صينية لفرض السيطرة العسكرية على تايوان.
ولكن ولاية الرئيس ترامب الثانية تُثير حالة من عدم اليقين في آسيا، فبعض المؤشرات القادمة من واشنطن تُظهر بوضوح أن ترامب أقل التزاماً بالدفاع عن تايوان من أسلافه، وهو لا يتوانى أيضاً عن استهداف الهند برسوم جمركية قاسية، مقابل تصريحات متكررة بعلاقاته الممتازة مع الصين، وحرصه على زيارتها لإبرام “صفقة كبيرة”، حيث أن جميع هذه العناصر ترفع نسبة القلق في الهند، من احتمال نشوء تحالف أميركي صيني.
ما الأسباب الجوهرية للنزاع الحدودي؟
ويقول المحلل الاقتصادي جورج فرح، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن النزاع الحدودي بين الهند والصين جذوره عميقة ومعقدة، فالحدود نفسها لم يتم ترسيمها بشكل نهائي منذ الحقبة الاستعمارية البريطانية، وهذا خلق مناطق شاسعة من الأراضي المتنازع عليها، وما يجعل أي اتفاق بين الجانبين معقّداً أكثر هو أن الحدود تمر عبر جبال الهيمالايا، وكل من بكين ونيودلهي تنظران إلى هذه المناطق كجزء من أمنهما القومي وعمقهما الاستراتيجي، مشيراً إلى أن هذا التداخل في المناطق الحدودية جعل النزاع بين الهند والصين عصياً على التسوية لعقود طويلة وحتى اليوم، حيث أن أي تفاوض بين الجانبين يتعثر عند النقطة الأساسية، وهي كيف يمكن للطرفين أن يتنازلا من دون أن يُظهرا ضعفاً أمام الداخل أو أمام المنافسين.
شريك أم خصم؟
ويرى فرح أن الصين تتعامل مع الهند بأسلوب يتسم بالازدواجية، فمن جهة ترى في السوق الهندية سوقاً ضخمة تخلق فرصاً لشراكات اقتصادية خصوصاً في مجالات التجارة والتكنولوجيا، ومن جهة أخرى ترى في الهند خصماً إقليمياً صاعداً ينبغي إبقاؤه تحت سقف نفوذها، ولذلك تحاول بكين في علاقتها مع نيودلهي أن توازن بين الضغط والتقارب، حيث تضغط عندما يتعلق الأمر بالحدود والنفوذ الإقليمي ولكنها تترك الباب مفتوحاً أمام التعاون في الاقتصاد أو المؤسسات متعددة الأطراف، مشدداً على أن هذه المعادلة الرمادية، تجعل العلاقة بين البلدين متأرجحة بين الشراكة والتنافس الحاد.
ملامح انتقال المصانع
من جهته يقول استراتيجي الأسواق المالية أحمد عسيري، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن تسارع انتقال المصانع من الصين إلى الهند، نتيجة القيود الأميركية والتعريفات الجمركية يُعمق حالة التنافس الاقتصادي بين البلدين، حتى وإن حرصت القيادتان في بكين ونيودلهي، على إظهار صور ودية بين الوقت والأخرى، فالمسألة باتت تتعلق بمستقبل التكنولوجيا والقيمة المضافة في الصناعة العالمية، أي بالمصدر الأساسي للقوة الاقتصادية والنفوذ السياسي.
ويكشف عسيري أن الأرقام تشير الى انه خلال النصف الأول من العام الحالي، رفعت آبل إنتاجها من أجهزة الآيفون في الهند إلى ما بين 18 و20 في المئة من إجمالي الإنتاج العالمي، بعدما كان معظم هذا النشاط محصوراً داخل الصين، الى حد كبير من القارة الاسوية، وفي الوقت نفسه قفزت صادرات الإلكترونيات الهندية بأكثر من 23 في المئة خلال الاثني عشر شهراً الماضية، لتؤكد أن نيودلهي اصبحت قادرة على استقطاب إنتاج متقدم في قطاع، كان ينظر إليه على أنه حكر صيني الى حد كبير، لافتاً إلى أن الصين شهدت تباطؤاًً في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث سجلت في بعض الفصول الأخيرة صافي تدفقات سالبة وهو ما يُظهر أن جزءاً متزايداً من رأس المال، يبحث عن وجهات أقل كلفة وأكثر استقراراً للتقلبات السياسية وانعكاساتها، وبالتالي تبدو الهند في موقع المستفيد من هذا التغيير، إذ تقدم نفسها كبديل استراتيجي في وقت مهم.
تهديد موقع الصين
ويعتبر عسيري أن انتقال المصانع من الصين للهند، لا يتعلق بتحريك خطوط إنتاج فقط، بل يعني أيضاً إعادة توزيع الوظائف وتغيير وجهة الاستثمارات وإعادة تمكين الريادة التكنولوجية، وبكين تدرك أن خسارة بعض حصصها الصناعية لصالح نيودلهي، يمتد إلى مكانتها في الاقتصاد العالمي وموقعها في سلاسل القيمة ولو أن هذا النظرة قد تكون طويلة الأمد، في حين أن نيودلهي ترى في هذه اللحظة فرصة تاريخية لتثبيت نفسها كلاعب صناعي رئيسي، بعد عقود اقتصرت فيها قوتها الاقتصادية على قطاع الخدمات، لافتاً إلى أن الهند لا تزال متأخرة عن الصين في تكنولوجيا التصنيع التقني المتقدم ولكن مجرد دخولها مجال المنافسة بهذا الشكل يعتبر جيداً، وبالتالي إذا نجحت الهند في جذب كتلة أكبر من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإنها تقترب من تحدي الصين في صميم قوتها الاقتصادية.
علاقة شد حبال
ويشدد عسيري على أنه من منظور بكين، فإن صعود الهند الصناعي يمثل تهديداً استراتيجياً طويل الأمد لمكانة الصين، ومع ذلك فإنه من الخطأ اختزال العلاقة بين الجانبين بالعداء الدائم، فالواقع السياسي الدولي يفرض بين الحين والآخر تقاطعات تكتيكية في المصالح، إذ أنه عندما يتولى البيت الأبيض قيادة ذات توجّه حمائي، كما هو الحال مع تصاعد الرسوم الأميركية، تجد الصين والهند نفسيهما أمام مصلحة مشتركة في التنسيق لمواجهة الضغط الغربي، وهو ما يمنح تعاونهما بُعداً وظيفياً كورقة قوة أمام واشنطن، غير أن هذه اللحظات سرعان ما تتراجع عندما يدخل الاقتصاد في مرحلة من الرخاء، فتعود الحسابات الوطنية لتطغى، حيث يسعى كل طرف إلى تعظيم نصيبه من الاستثمارات وتقليل الاعتماد على الآخر.
وبحسب أحمد عسيري فإن العلاقة بين الصين والهند هي علاقة شد حبال، تشمل تعاوناً تكتيكياً مرحلياً، عند مواجهة خصم خارجي، يعقبه عودة إلى التنافس الحاد حالما تهدأ الضغوط، وهذا الأسلوب يبدو الأنسب في بيئة دولية متقلبة تدار بالتدخلات السياسية وتتشابك فيها المصانع مع عناصر النفوذ الاستراتيجي.